يدٌ يمنى معطوبة | قصّة

 

دخلت أبو ظبي صباحًا، كان الصباح يلتقط أنفاسه الأولى، وكنت طفلًا صغيرًا يقف على نافذة سيّارة مسرعة، يتأمل العالم الغريب في الخارج، يتطاير شعره من شدّة الهواء الساخن، وقلبه من شدّة الدهشة الساخنة أيضًا. لم أنتبه طوال الطريق الواصل بين مطار دبي والخالديّة في أبو ظبي، بأنّ يدي اليمنى لا تعمل، لم ألحظ اختباءها في المقعد الخلفيّ وبكاؤها المرير على الفراق. حين وصلنا الخالدية، انتبهت أنّني كنت أسند ذقني بيدي اليسرى، وأنّ اليمنى كانت مختبئة في المقعد. قلت إنّ الأمر ليس سوى أمر تافه، وماذا يعني أنّ يدي اليسرى هي الّتي تسند ذقني لا يدي اليمنى؟ هذه نكتة سخيفة، فلو أوقفت شخصًا ما أعرفه وشرحت له الأمر، قلت له: "يا صديقي أنا أعاني من مشكلة، كنت في السيّارة وتفاجأت أنّ يدي اليسرى هي الّتي تسند ذقني، لا يدي اليمنى!"، لقهقه على سفهي وأكمل طريقه دون أن يردّ السلام. ماذا لو أوقفت رجلًا غريبًا وأخبرته بالأمر؟ تعالوا نفترض ذلك: "مرحبًا عزيزي، أنا أعاني من مشكلة..." لردّ بهذه الجملة: "السلام عليكم..." ثمّ شوّح بيديه وقال: "sorry" وذهب من طريق أخرى. أعذره، إنّه يبدو فلبينيًّا لا يفهم العربيّة كونه زائرًا جديدًا لأبو ظبي. 

في بلدي القديم، كنت أفعل كلّ شيء بيدي اليمنى، أكتب فيها، أمسك صفحات الكتاب المتطايرة فيها، حين أشرب الشاي - مشروبي المفضّل قبل المجيء - كنت أحمل الفنجان بيدي اليمنى، وهكذا. حتّى أنّني ذات مرّة أصررت على المصافحة بيدي اليمنى وقد كانت مكسورة، لكنّني أصررت على المصافحة بها، آلمني ذلك لكنّني كنت سعيدًا. 

جئت إلى هنا؛ فتعطّلت يدي، هذا ما اكتشفته لاحقًا حين عزم عليّ أحمد كوب ’كرك‘ للمرّة الأولى. الكرك هو المشروب الشعبيّ هنا، تمامًا كالشاي في بلدي القديم، يتكوّن الكرك من شاي يغلى مع السكر والزعفران أو الهيل على نار هادئة لفترة وجيزة؛ إلى أن تتركّز النكهة، ثمّ يضاف إليه الحليب، ويترك على نار هادئة لفترة أطول، كما تضاف إليه أحيانًا بعض النكهات الخاصّة مثل القرفة أو الزنجبيل، لم أحببه في البداية ثمّ صار مشروبي المفضل. تناولت الكرك بيدي اليسرى، وشربته كلّه دون أن أعي ذلك!

في الحقيقة كنت مخدّرًا بعد رحلة طويلة من معبر رفح إلى الخالديّة، كانت رحلة موت لذيذة وكنت متناقضًا فيها حدّ السكر فلم أعرف، هل أنا سعيد أم حزين؟ هل يتوجّب عليّ الفرح أم يجب عليّ البكاء كما يبكي طير على موت أمّه؟ لكنّني ابتسمت، ابتسمت حين رأيت مطارًا للمرّة الأولى في حياتي، وحين جلست مع امرأة غريبة للمرّة الأولى أيضًا، وحين أخذت أوّل شهيق خارج بلدي القديم، وحين رأيت فلبينيًّا وهنديًّا وتونسيًّا وألمانيًّا، وبرازيليًّا للمرّة الأولى، وحزنت وكدت أبكي حين تأكّدت بأنّ يدي اليمنى معطوبة تمامًا ولا أستطيع التحكَم بها. 

وصلت بيت أحمد، جارنا في البلد القديم ومستضيفي في البلد الجديد، شابّ مفتول العضلات وغارق في حمية غذائيّة يكسرها كلّ يومين بوجبة دسمة. نمت مثل قتيل ولم أستيقظ حتّى الظهر على صوت الآذان. 

غريبة أبو ظبي، إنّها تمنحك كلّ شيء دفعة واحدة، تمنحك الدين، الحرّيّة، الحياة، الأمل، وحين تكون مكتئبًا، تمنحك زجاجة فودكا تشربها وتنسى. استيقظت، وبعدما توازنت، جاء مَنْ أعرفهم ليسلّموا عليّ، لم أستطع مصافحة أكفّهم بيدي اليمنى، اعتذرت لهم ومددت اليسرى، وبدأت الأسئلة تنزل عليّ مثل حجارة من سجيل: "ماذا حدث ليدك؟ هل أصيبت؟ على الأرجح أنّك تعرّضت لكسر، أليس كذلك؟ وقعت عن الدرج؟ تشاجرت مع أحد؟ نمت عليها فالتوت؟". كرّرت اعتذاري، واختبأت خلف كذبة سخيفة، قلت إنّني تزحلقت على أرضيّة حمّام في مطار القاهرة ووقعت عليها ومنذ ذلك الوقت لم أستطع تحريكها... يبدو أنّها مكسورة. 

صدّقوا ذلك، أحدهم عرض عليّ الذهاب إلى المستشفى لكنّني رفضت، وتعلّلت أنّني أكره الجبس وأنّني سأضع مشدًّا يحلّ المشكلة - لم أفعل طبعًا - واستمرّ الأمر حتّى صَدّقت الكذبة وكنت أنتظر عودة يدي إلى العمل، لكنّها لم تعد... 

مرّ يوم، يومان، شهران، سنتان، ويدي لم تزل معطوبة لا تتحرّك ولا تبتسم، فقط أراها تبكي في الليل دون صوت، أرى الدموع تهطل منها وهي لا تحرّك ساكنًا.

فكّرت كثيرًا في الأمر، وقلت إنّني وقعت عليها لا محالة، هذا أمر مؤكّد وإلّا فليس ثمّة تحليل منطقيّ آخر. جلست وماضيّ، حاولت التذكّر وخرجت من تلك المعمعة صفرًا على اليسار، لا أسباب معي، لا ذكريات ليدي سوى الّتي يمكن لأيّ يد جيدة أن تمتلكها، فكّرت في أنّها قد تكون تعبت من الحياة وقرّرت الانتحار وهذه طريقتها في الرحيل. قلت إنّها معترضة على خروجي من بلدي، ونفيت ذلك لأنّها ظلّت تعمل حتّى بعد خروجي بقليل، وبرّرت ذلك بأنّها لو كانت معترضة لقرّرت الانتحار منذ اتّخذت قرار الرحيل. ضعت في الماضي، واحترت كتائه ولم أجد الطريق.

قبل سنة تقريبًا، يئست من عودتها لطبيعتها فقرّرت الذهاب إلى الطبيب. ذهبت إليه، فحصها، وأمرني ببعض الصور والتحاليل، والغريب أنّ الأمور كلّها كانت طبيعيّة، قال لي بالحرف الواحد: "يدك سليمة مئة بالمئة ولا يوجد أيّ خلل فيها". خرجت من العيادة يائسًا، ممتلئًا بهمّ لا يفهمه أيّ إنسان على وجه البسيطة؟ تأمّلت في حادثة مطار القاهرة، قلت إنّني بالتأكيد وقعت عليها وما تحتاجه هو جبيرة لمدّة أسبوعين أو ثلاثة فقمت بوضع مشدّ عليها مدّة شهر، ولم أخرج بنتائج جديدة.

يومًا ما، رآني أحمد وأنا أنهار من شدّة البكاء، أصرّ عليّ أن أخبره ما الّذي يبكيني، ولولا أنّه أصرّ وهدّد بضربي بجسده القويّ وعضلاته المفتولة – مازحًا - لما قلت. 

حين شرحت له الأمر لم يضحك، فقد مرّ وقت الضحك ونحن الآن في زمن البكاء، عرض عليّ أن أذهب معه إلى النادي الرياضيّ، وأن ألعب تمارين تفيد عضلات اليدين علّ الحركة تعيدها إلى طبيعتها وتجعلها تكفّ عن البكاء. 

ذهبت بأمل جديد، قلت إنّ يدي ستعود وسأعود إنسانًا كاملًا كما كنت في بلدي القديم بعد ممارسة التمارين الرياضيّة، وجال في خاطري ذكريات ذهابي إلى النادي الرياضيّ في بلدي القديم. كنت أحمل بها أوزانًا لو سمعت بها يدي في هذا الوقت لظلّت أسبوعًا كاملًا تضحك، إذ كيف سأقنع يدًا معطوبة أنّها كانت تحمل تسعين كيلو جرامًا بمساعدة اليد اليسرى؟ وكيف سأقنعها أنّها لم تكن تبكي وكانت حيّة تستطيع الحركة والاعتراض.

ذهبت مع أحمد إلى النادي الرياضيّ، ومرّ وقت طويل وأنا أحاول يوميًّا تمرينها لكنّها ترفض، بدت كمعترض على سياسة حكمي، أنا حاكم ديكتاتوريّ، هذا ما فهمته من بكائها وتعطّلها. أخدعها حين أُشْعِرُها أنّها حرّة ثمّ أفاجئها بدكتاتوريّتي المستمرّة، هذه هي طبيعة الإنسان، ديكتاتور بالفطرة.

لم أجد حلًّا، بقيت حائرًا حتّى وقع حدث أوقع الثلج على رأسي والحزن على قلبي، وأمطر ملامح وجهي بالاستغراب. 

قرّرت أمّي فجأة أن تزورني وأصرّت على ذلك. كنت نبتة ذابلة أنتظر رشفة ماء من يد أمّي لتعود خضراء ناصعة، فالغربة هذه تنسِل خيوط الجسد واحدًا واحدًا، وحدها أمّي الّتي تعرف كيف تعالج عطب الغربة. 

مضى شهر كامل حتّى استطاعت أن تأتي إليّ، ذهبت لاستقبالها وكنت ذات الطفل الّذي نظر من نافذة السيّارة مندهشًا وهو يرى أبو ظبي للمرّة الأولى، عادت إليّ دهشتي الأولى من المكان، وتمنّيت أن أعود إلى بلدي القديم مقابل أن تعود يدي إلى العمل.

في المطار بعدما رأيت أمّي واحتضنتها، ذهبت لأحمل عنها حقائبها، وقتها، حملت حقائبها بيدي اليمنى، لم أنتبه أنّ يدي لم تعد معطوبة.

 

* هذه القصّة من مجموعة «اختفاء شجرة باباروتي» الحاصلة على توصية بالنشر في «مسابقة الكاتب الشابّ» عام 2019، وقد صدرت المجموعة عن «دار الأهليّة» في العام 2021.

 


 

عامر المصري

 

 

 

كاتب وقاصّ وُلِدَ عام 1995 في مدينة خانيونس. صَدَرَت له مجموعتين قصصيّتين عن «مكتبة سمير منصور» بعنوان: «ثلاثة يحاصرونني» (2018) و«حافر القبر القادم» (2019)، وصدرت له رواية بعنوان: «ممحاة سيّدي أزرق» (2019).